آخر الأخبار

دليلك إلى تغيير العالم

الطلب يتزايد على كتاب «مخطط للثورة»، للناشط الصربي الشهير سيرخا بوبوفيتش (وزميله ماثيو ميللر)، بعد 4 سنوات على صدوره (2015)، ولذا فقد أطلق ناشره الأميركي لتوه طبعة خامسة من النسخة الإنجليزية، كما ترجمات له بالفرنسية والألمانية والصربية والكورية. وهذا الإقبال يعكس، لا شك، فضولاً عاماً بين جمهور متزايد تجاه فلسفة الثورات الملونة اللاعنفية التي أسقطت منذ بداية هذا القرن أنظمة غير ما دولة، لا سيما في شرق أوروبا: صربيا وجورجيا وأوكرانيا، أو تسببت بزلازل سياسية عميقة داخل دول أخرى: ما سمي الربيع العربي، كما حراكات «احتلوا»، و«ثورات المناخ»، و«استقلال» برشلونة، وأيضاً «الثورات» الجارية حالياً ضد الأنظمة في العراق ولبنان وهونغ كونغ، وغيرها. قراء بوبوفيتش ينقسمون إلى نوعين لا ثالث لهما: طلاب ثورات ملونة يبحثون عن إلهام، أو منتقدون ينقبون عن وسائل لإدانة الثوريين الجدد، وطرائق مواجهتهم، لكن الطرفين مع ذلك يبدوان – بحكم مبيعات الكتاب – متفقين على أهمية ما يقوله الرجل.
اكتسب بوبوفيتش سمعته، كخبير ثورات ملونة، بعد أن نجح وزملاؤه منسوبو حركة المقاومة الصربية (أتبور) في حراكهم اللاعنفي عام 2000 ضد حكم الرئيس سلوبودان ميلوسيفيتش. قبلها، كان مجرد عازف جيتار مغمور بالمشهد الثقافي البوهيمي الطابع ببلغراد نهاية التسعينات. الموسيقيون كانوا وقتها الصوت الأعلى تجاه انتقاد النظام الصربي الحاكم، عبر أغانٍ شبابية اتسمت ببذاءة ملحوظة، وتدريجياً وجد بوبوفيتش نفسه أكثرهم تفرغاً للتركيز على قيادة حراك معارض يحاول أن يستقطب طلاب الجامعات وجيل الشباب المتمرد عبر الأنشطة الموسيقية أساساً، بالنظر إلى صعوبة خوض نضالات عنفية ضد سلطة مدججة بالسلاح. لاحقاً، التقى بوبوفيتش مستشارين أميركيين عرفوه على أعمال البروفسور جين شارب الذي كان قد وضع ما يشبه مسرداً بـ198 تكتيكاً للثورات السلمية، في إطار فلسفة شاملة لإسقاط الأنظمة الديكتاتورية بغير العنف المسلح، وعلى أساسها تحقق أول نجاح عملي على الأرض لما صار يعرف عند الصحافة والمتخصصين بالثورات الملونة.
ورغم أنه وزملاؤه في حركة «مقاومة» الصربية سقطوا من المشهد السياسي الصربي بعد الثورة، بعدما فشل مرشحوهم إلى البرلمان في الحصول على الحد الأدنى المطلوب من الأصوات، فإن تجربتهم في إدارة ثورة ناجحة منحتهم مصداقية لتأسيس «كانفاس» (مركز الأنشطة والاستراتيجيات اللاعنفية التطبيقية) CANVAS)) لتدريب الثوريين من الدول الأخرى ونقل الخبرات إليهم، الذي خرّج ناشطين كثراً من لبنان وسوريا والعراق ومصر والسودان، وغيرها من دول العالم الثالث، إضافة إلى جولات بوبوفيتش لترويج كتبه عبر العواصم، ومحاضرات يلقيها في مختلف الجامعات المرموقة، بما فيها هارفارد نفسها بالولايات المتحدة.
وكتاب بوبوفيتش ينقسم إلى جزأين: بداية هناك كثير من دراسات الحالات الثورية، يستعيد فيها دروس النجاح والفشل، سواء من تجربة «مقاومة» في صربيا أو من دول أخرى: الصين (ميدان تيانانمين)، وبولندا (حركة تضامن في الثمانينات)، ومصر (حركة كفاية، ولاحقاً ثورة يناير)، وغيرها، بينما يقدم في نصفه الثاني نصائح عملية، وتكتيكات للثوريين الطامحين إلى زعزعة أنظمة الحكم في بلادهم.
ومع كثير التكتيكات المتناثرة عبر الكتاب، فإن الدرس الأساسي الذي يقدمه بوبوفيتش هو ضرورة تأسيس هدف واستراتيجية واضحة للعمل الثوري، يتم على أساسها اختيار أفضل الأنشطة المناسبة، التي يرى أن تبدأ دائماً صغيرة فاعلة مرحة لتجلب القطاع الأوسع من الجمهور، قبل التورط بالمظاهرات الضخمة والاعتصامات العامة. وهو يغرف في ذلك من أعمال البروفسور شارب، لا سيما لناحية التحليل الدقيق للأعمدة السياسية والاقتصادية التي تستند إليها منظومة السلطة، واستهداف تلك الأعمدة عبر التكتيكات المختلفة إلى أن يسقط النظام، دون تدمير الهيكلية الأساسية للدولة التي من المفترض أن تسقط لقمة سائغة في يد الثوار.
ويشدد بوبوفيتش كثيراً على حماية مبدأ السلمية مهما كان الثمن، لأن متحمساً أحمق يحمل مسدساً قد يفشل جهود عشرات الآلاف عبر أسابيع، ويمنح السلطات نوعاً من الحافز والشرعية لسفك الدماء، بينما ينفر الكتل الشعبية من العملية برمتها، نتيجة تشوش صور الضحية والمعتدي في الأذهان (تجربة سوريا وليبيا). كما يحذر من الاحتفال المبكر بالنصر (تنحي الرئيس حسني مبارك في مصر، دون تحقق تحول ديمقراطي)، أو التشرذم بعد تحقيقه (ثوار أوكرانيا المتنازعين بعد سقوط النظام)، أو التطرف في المطالب (كل شيء أو لا شيء على الإطلاق، كما ثوار ميدان تيانانمين)، أو الخلط بين الاستراتيجية والتكتيك (احتلال الساحات والمباني العامة في حراك «احتلوا» في الولايات المتحدة وأوروبا، كان يجب أن يكون تكتيكاً لا استراتيجية).
وصياغة نص الكتاب ممعنة بالمتعة، لوفرة القصص والأمثلة والإضاءات على أحداث سمعنا عنها أو عشناها، لكنه مع ذلك يتضمن نزعة لا تخفى لتعظيم الذات، والمبالغة في دور «مقاومة – أتبور» الصربية، ومعهد كانفاس في أحداث العالم المعاصر: فثورة بورما نجحت بعدما هرب أحدهم شريط «دي في دي» من حركة «مقاومة» إلى دير بوذي في قلب الأدغال، والمصريون خرجوا بملايينهم إلى ميدان التحرير بعدما تلقى ناشطون مصريون تدريبات على يد «كانفاس»، وغيرها من المبالغات السطحية الساذجة.
وللحقيقة، فإن محاولة احتكار فكرة اللاعنفية لـ«مقاومة» أو لـ«كانفاس» لا تخدم للكتاب قضية، فهناك تاريخ طويل لثوريين سلميين في القرن العشرين صنعوا فرقاً لمجتمعاتهم: غاندي في الهند، ومارتن لوثر كينغ وحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، وحركة المقاطعة لنظام جنوب أفريقيا العنصري، وغيرها. وكثير من التكتيكات التي يقترحها بوبوفيتش (ومعهد كانفاس) إنما هي مستلهمة من أنشطة فاعلة قامت بها تلك الحراكات الرائدة قبل الثورة الملونة بعقود. كما لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان الجهد النظري الهائل الذي قام به البروفسور الأميركي جين شارب منذ 1992 حتى وفاته (2018) في هذا المجال، والذي اعتمده المستشارون والقادة الثوريون كدليل عمل يرجعون إليه عند إطلاق ثوراتهم الملونة. وقد أجرت إريكا تشينويث وزميلتها مسحاً شاملاً لـ323 صراعاً طوال القرن العشرين، عنفية ولاعنفية، وتوصلتا إلى قناعة بأن فرص نجاح الحراكات اللاعنفية على العموم أعلى إحصائياً (53 في المائة)، بمعدل أكثر من الضعف لفرص نجاح تلك العنفية (23 في المائة)، محذرتين في الوقت ذاته من أنه لا وصفة أكيدة للنجاح، وأنه في بعض الحالات (مثل الجزائر وكوبا مثلاً، كان يستحيل عملياً تحقيق انتصار على الأنظمة القائمة من دون حمل السلاح).
كما لا يجدر أن يغيب عن ذهن المراقب المنصف دور الدعم الغربي، سواء الاستخباراتي أو المادي أو الإعلامي منه، في إطلاق معظم الثورات الملونة، ونجاح بعضها، ومنها في الصدارة بالطبع ثورة صربيا 2000. وهو أمر إنكاره لم يعد يجدي نفعاً، بعدما توفرت في ذلك شهادات ووثائق كثيرة. لكن تساؤل اللحظة الراهنة هو عن معنى مثل ذلك الدعم، وهل يرتبط بالتزامات سياسية أو عسكرية أو اقتصادية حال نجاح الثورة؟ الثوريون بالطبع يقولون إنهم بحاجة للدعم من دول العالم «الديمقراطي» لتعظيم فرص نجاح حراكاتهم الشعبية التي من دون الضغط الإعلامي والدبلوماسي من الولايات المتحدة وكثير من الدول الكبرى ستنتهي غالباً إلى الفشل، وأنهم سيأخذون مثل ذلك الدعم وقت الشدة في تقرير مواقفهم السياسية وانحيازاتهم في مرحلة ما بعد الثورة، بينما تبرر الولايات المتحدة وبقية حكومات الغرب بأنها عبر دعمها للثورات الملونة تساند نضالات الشعوب للتحرر من الأنظمة الديكتاتورية، والتحول إلى الديمقراطية، وهي بالطبع مواقف تسمح للأنظمة بتوجيه تهم العمالة والخيانة للحراكات وللقائمين عليها، مهما كانت مطالبهم عادلة مستحقة. بوبوفيتش، الثرثار ذو الجعبة المتخمة بالقصص والأمثولات، يصمت تماماً أمام هذي المفارقة الصعبة، رغم أنها قد تكون تحديداً سر نجاح الثورة أو فشلها.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock